ترددت تلك العبارة أمامى مؤخراً بصورة كبيرة ... مما جعلنى أقف حيالها .. وأفتش فى داخلى عن هذا الطفل .. هل هو موجود بالفعل .. أم أنها مجرد أوهام تراود الرجال فى مرحلة معينة من مراحل حياتهم المتعددة !!
نأخذ الخيط من بدايته ... بالطبع الجميع يمر بتلك المراحل .. طفولة مبكرة يعيشها الإنسان كلٌ بالقدر الذى يوفره له الأهل والمجتمع .. وحسب البيئة المادية و الفكرية المتاحة - وفى تلك المرحلة يتميز الطفل منا بذاكرة بانورامية تسجل الأحداث بصورة مدهشة يعجب لها الشخص ذاته عندما يتذكر تلك الأحداث بتفاصيلها بعد مرور ثلاثون أو أربعون عاماً - وهذا ما اكتشفته مؤخراً كتجربة شخصية ..
يأتى العقد الثانى ومعه يحاول كل طفل أن يتخلص من كل مظاهر طفولته فى محاولة لإثبات أنه فى عداد الرجال ولم يعد هذا الطفل الذى يملى الجميع عليه واجباته ويحدد خطواته .. يلى ذلك على مدى عقدين من الزمان نكون هذا الشاب الذى تأخذه دوامة الحياة فى محاولة البناء وإثبات الذات الى جانب ارساء قواعد أسرة جديدة ، وما يصاحب هذين العقدين بالتحديد فى حياتنا من نجاحات ، وإخفاقات متعددة فى كافة مناحى الحياة .. وهى أكثر فترات حياتنا حراكاً وتخبطاً وثراءاً بالتجارب والتفاعل مع المجتمع .. وفى تلك المرحلة بالذات نسينا ( أو تناسينا ) فى غمرة مشاغلنا هذا الطفل الذى بداخلنا وفارقناه الى غير رجعة ( متوهمين ذلك ) ..
حتى إذا ماوصلنا الى العقد الرابع من حياتنا .. وهو ما يحلو للبعض بوصفه بـ ( سن النضوج ) العقلى أو الفكرى .. وقد يكون هو المحطة التى يستريح عندها البعض من مشقة الطريق الطويل عندما ينظر خلفه فى مشوار طويل سار فيه على مدى أربعون عاماً إنقضت من عمره بحلوها ومرها فى هذا الدرب .. وهنا مفترق الطرق .. ننظر تارة الى الخلف وتارة أخرى الى الأمام ... يفتش كل منا فى الماضي .. يستعرض طموحاته ونجاحاته ، وكذلك إخفاقاته وزلاته خلال تلك العقود المنصرمة من حياته .. فى نفس الوقت الذى يتبصر خطواته الى المستقبل بمنظار جديد ومفهوم آخر للحياة ..
فى تلك المرحلة التى أدركتها مؤخراً .. تغيرت لدىّ ( شخصياً ) مفاهيم كثيرة للحياة ، تبدل الكثير من إهتماماتى ، تعاملاتى مع المحيطين بى ، بل والأكثر من ذلك مفردات حياتى اليومية طرأ عليها بعض التعديل ..
لم أقل أن كل هذا التغيير تم بين عشية وضحاها .. ولكن هناك تغيير بالفعل - نسبى وبدرجات - تم خلال تلك الفترة - وبداية من سن الأربعين بالتحديد - ولم أقل أن هذا التغيير صار من الحسن الى الأسوأ أو العكس .. ولكنه تغيير ( مجرد تغيير ) يصاحبه بعض من العقلانية والفهم والوضوح فى الرؤية للحياة .. بل يمكن أن يوسم بالرضا والقناعة بالقسمة والنصيب الى جانب المصالحة مع النفس ومع المحيطين من المقربين أو زملاء العمل .. وأكثر من هذا وذاك المصالحة مع الله والاتزان الدينى والعقلى ...
نعود الى موضوع حديثنا .. ألا وهو ( إحساس الطفولة المتأخر أو الطفل الذى بداخل كل منا ) الذى استهللت به حديثى .. وهل هو من قبيل النظريات الفلسفية التى نطالعها فى كتب الفلسفات وعلم النفس .. أم هو واقع يدور فى فلكه الرجال فى تلك المرحلة من العمر !!
ما أثرثر به الآن قد يكون تجربة شخصية لا تنطبق على الكثيرين ، ولا تعنيهم فى شىء .. ولكن هى من قبيل التعليق على مرحلة أو حالة من حياتنا قد نمر بها ولو للحظات خاطفة ، قد لا نقف حيالها ونتخطاها دون أن تترك أى أثر ، وقد تكون لدى آخرين مرحلة تحوُل فى حياتهم وتبدُل من حال الى حال ..
مع إسقاط الرجل على الماضى فى تلك المرحلة فإنه يزداد حنينه الى الطفولة التى فارقها منذ عقود مضت .. فتعود اليه ذكرياتها .. وقد يجره اليها أطفاله عندما يشاركهم ألعابهم أو استذكارهم لدروسهم أو يعقد مقارنه بين ردود أفعالهم فى مواقف معينة ، مع ردود افعاله هو سابقاً فى تلك المواقف .. قد يجره اليها إنصراف الزوجة عنه الى عملها أو أولادها وتبدل أحوالها من حال الى حال .. قد يكون السبب داخلى وليس له علاقة بالزوجة أو الأولاد .. مثل عامل السن الذى نتنبه البه مؤخراً .. وأن سنوات العمر تسربت من بين أيدينا ، ونحاول لملمتها والتمسك بما تبقى منها من أيام أو سنوات لا يعلمها الا سبحانه وتعالى .. كل تلك الدوافع تقريباً هى ما تجر حنين الرجل الى طفولته مرة أخرى .
وقد يتمادى البعض من الرجال فينساق وراء فيض عواطفه التى تدفقت فجأة فيعيش طفولته أو صباه مرة أخرى وإن كان بصورة مختلفة عن سابقها فيما يعرف بـ ( المراهقة المتأخرة ) وهذا قد يقع فيه البعض من الرجال الذين لا يعيرون كثيراً من الاهتمام لردود أفعال المجتمع المحيط بهم .. أو فلنقل الذين لديهم الشجاعة للتعبير عن عواطفهم بحرية تامة .. وهذا يعود بالطبع الى طبيعة وأسلوب حياة كل شخص منا ..
وقد يسيّس البعض الآخر مشاعره ويحاول حجبها عن الآخرين .. من قبل الأطر العامة التى تغلف حياتنا ، والتى توسم كل خروج على المألوف بالعيب والحرام ، حتى إذا ما أتيحت له الفرصة لإطلاق سراح هذا الطفل ولو للحظات خاطفة فإنه لا يتوانى فى ذلك .. قد يكون ذلك فى مداعبة مع أطفاله ، أو ملاطفة مع زوجِه ، أو حتى حديث مع النفس بعيداً عن أعين ورقابة الآخرين .
الخلاصة .. أنه بالفعل هناك الطفل بداخلنا ينادينا من وقت لآخر ، ويستصرخنا فى أوقات أخر .. أن ننهض من غفوتنا وألا نضيع مابقى لنا من العمر فى كل تلك الحماقات من الجرى وراء متطلبات الطعام والشراب وكسوة الأولاد ومستلزمات منزل أم الأولاد ..
فهل نلبى حاجات هذا الطفل أم نقتله فى داخلنا حتى يرضى عنا المجتمع و ( يوصمنا ) بالاحترام والخلق الكريم !!!
استفسار يستحق منا وقفة مع النفس ... وإجابة أيضاً لا ترى النور أو يتم الفصح عنها .. حتى لا يتلصص عليها الآخرين .. ويسجلونها فى سجل زلات اللسان أو سقطات التفكير ..
إنها ثقافة مجتمع ، ولا دخل لنا فيها ... حيث أننا من الجُبن حتى فى مواجهة أنفسنا .. فكيف لنا أن نواجه المجتمع ككل ...
فليهدأ الطفل الذى بداخلنا الى حين ... وليتخير لحظات لهوه أو صراخه .. فهو لم يعد طفلاً صغيراً .. بل الطفل الكبير الذى يحاسب وبشدة على كل هفواته أو زلاته ...
السلام عليكم
ردحذفلا ادرى كيف يمكننا الوصول الى الطفولة الان وقد دخلنا الى مرحلة الكهولة
لكن انا معك .. مازال هناك طفلاً يسكننا
تقبل مرورى اخى الحبيب
"لا ادرى كيف يمكننا الوصول الى الطفولة الان وقد دخلنا الى مرحلة الكهولة"
ردحذفمتفقين فى الرأى أن بداخلنا الطفل ... ولكن كل واحد وشطارته فى التعامل مع هذا الطفل ... هل فعلاً يكبته ويقتله بداخله .. أم يلبى بعض حاجاته من وقت للآخر . هنا كل واحد وإمكاناته !!!
ولكن أختلف معك فى مسمى " مرحلة الكهولة " هذه .. وقعها ثقيل جداً على النفس .. دعنا تؤجلها الى حين ، مفاهيم العمر تغيرت كثيراً ، والكهولة هذه لا يجب أن نذكرها ألا بعد الستين أو السبعين إن كان لنا فى العمر بقية ...
لك تحياتى ...
وبالمناسبة ... اُعجبت جداً بشغلكم الرائع والقيم فى بوابة العرب .. ، بالاضافة الى " رؤية " التى تحمل بصمة فنية عالية لا يقدرها إلا من هم فى المجال والتخصص ..
لك تحياتى مرة أخرى ...