الأحد، 18 يناير 2009

طفولة ...

( 2 )

... أحاديث الذكريات ما أكثرها .. وما أعذبها .. ولكن من لديه ناصية الكلِم حتى يلملمها ويخطها فى صفحات !
أدركتنى لعنة التفكير مؤخراً .. وصرت أبحث عن ورقة وقلم كلما خلوت الى نفسى .. بحجة أن أسجل خاطرة أو فكرة عابرة ألتقطها فى لحظة من لحظات التجلى أو صفاء الذهن .. ولكن اكتشفت و ياللأسف أن صنعة الكتابة ليست من الأمور الهينة التى يخوض فيها كل من هبّ ودب .. وليس كل من قرأ كتابين من اليسير عليه أن يمسك القلم ويخط السطور .. فالموضوع أكبر من ذلك بكثير .. مؤهلاته .. مهارات لغوية ، وفكر منظم .. وخبرات متراكمة فى كافة مناحى الحياة ..
ولكن !! راقت لى فكرة الكتابة على أية حال .. وليكن مايكون !!!
قد يكون العذر المقبول لدىّ الآن بالتمادي فى تلك الإرهاصات .. هو أننى وجدت أن ما أضيفه هنا من سطور أفضل كثيراً من محتوى مدونات لا حصر لها مما صادفنى المرور بها ..
وهاأنذا على الأقل .. أمارس حق مشروع كفله لى ( النت ) بأن أفكر بصوت عالٍ مع جهاز الحاسب خاصتى .. ولا يهم إن كان يسمعنى أحد فى الغرف المجاورة أم لا !!
أتمنى أن أعود الى تلك السطور بعد عام أو عامين .. وأجنى ثمرة عمل مارسته بحب وعن طيب خاطر .. وفيه مافيه من الجدية .. حيث لدى إحساس دائم بالتقصير نحو الذات .. وعقدة تلازمنى على الدوام من الأعمال المبتورة والغير مكتملة ..
بعد تلك التقدمة .. أعود مرة أخرى لحديث الذكريات ، ويحضرنى الآن ذكريات الطفولة .. وماأكثرها .. تحضرنى صورة الطفل الشقى ( من الشقاوة وليس الشقاء ) الذى يقضى جلّ وقته فى الشارع .. فشارع قريته بكل مافيه كان كل دنياه التى لم يخطو فيها سوى تلك الخطوات المعدودة .. يبدأ نهاره مبكراً ككل أهل المنزل .. وكعادة أهل الريف جميعاً فى تلك الأوقات .. كلٌ يصرّف شئونه الصباحية بطريقة اهل الخلية .. حيث الجميع الى عمل محدد بلا كلل ولا ملل .. سيدات المنزل يدبرن شئونه منذ الصباح الباكر من كنس وحلب ورعاية الطيور ونقل المياه من الترعة أو من ( الحنفية ) حسب الغرض المحدد لها .. وماإن تنتهين من مراسم الإفطار إلا ويتم الإعداد لطعام الغداء مباشرة .. أما الرجال فجميعهم الى الحقل بلا استثناء ... يأتي دورنا نحن الصغار .. فى تلك السن المبكرة ( ماقبل المدرسة ) عرفنا طريق الكُتّاب ، وصرنا عهدة الشيخ ( محمد عبد الدين ) رحمة الله عليه .. رفيقتى فى تلك الرحلة هى الأخت الكبرى .. كان كل دورها أن تصطحبنى الى الكتاب ثم ما تلبث أن تبتكر أى حيلة للشيخ للتزويغ من الحصة ..
لم يكن منزل الشيخ يبعد كثيراً عن منزلنا .. حيث منازل القرية كلها فى هذا الوقت لم تكن تتعدى الخمسون منزلاً على أكثر الأحوال .. كانت متراصة فى شارعين متوازيين .. المميز منها بالشارع الأمامي .. والأقل قدراً بالشارع الخلفى .. والمسجد على رأس القرية ، ودار الضيافة فى آخرها .. لذلك عددنا بالكتاب لم يكن بالكثرة المعهودة .. وكل أدواتنا هى ( معلم القراءة وجزء عمّ ) يبدأ يومنا فى الغالب بتسميع ( الماضى ) للشيخ ، يلى ذلك حفظ ( اللوح ) بطريقة الترديد الببغاوية المعروفة .. والحق يقال .. تميزْتُ فى تلك السن المبكرة بذاكرة تسجيلية فريدة شهد لها الجميع ، وفُقْت أقراني فى مهارات القراءة .. حتى اصبح دورى هو ( ألفا ) الكُتاب .. الذى عليه تحفيظ اللوح لباقى المجموعة .. كان شيخنا جليلاً بلا مبالغة .. لا أذكر أننى رأيته مرة بدون الزى الرسمى المعهود للمشايخ فى حينها ( الجبة والقفطان والطربوش الأحمر ) .. مازلت أتذكر صورته حتى هذه اللحظه وكأنه شخصية أسطورية لا نراها إلا فى كتب التاريخ .. كان يقطن الشيخ منزلاً متواضعاً فى الشارع الخلفى مع زوجته دون ابناء .. كانت مكافآته لنا لا تنتهى إما واحدة من حبات ( الملبس ) أو ( كارامللا نادلر ) لازلت أتذوق طعمها ذو لذعة النعناع الشهيرة فى فمى حتى الآن .. ولو مرّ عم ( مرسى ) بائع الفاكهة والخضار بعربته الكارو الشهيرة من أمام منزل الشيخ نضمن أن مكافأتنا ستكون فى الغالب ً من البلح أو البطاطا .. أتذكر تماماً تلك الأحداث بعد مرور مايقرب من أربعون عاماً .. وكأنها كانت بالأمس ..
ماأحلى الذكريات !!!
تستغرق حصة الكتاب غالباً نحو الساعة .. أما طريق عودتنا الى المنزل الذى لا يتعدى الخطوات فيمكن أن ينقضى فى ساعة أو ساعتين .. نقضيها فى لهو ولعب برىء .. ندور فى طرقات قريتنا الصغيرة مرات ومرات وكأنها استكمال للفروض اليومية الواجب علينا أداؤها .. لا يجبرنا على العودة الى المنزل سوى تلبية حاجة المعدة الى الطعام .. نبدى الرغبة فى الطعام للأهل .. فيكون الجواب .. الغداء لم يجهز بعد .. فيكون من نصيبنا فى أغلب الأحوال رغيف من الخبز الجاف مع قطعة من الجبن الأبيض أو حبة طماطم هى أكبر مافى دولاب الخزين .. نحصل عليها وننطلق مرة أخرى للخارج .. نعمل ( غُدّيوة ) مع أولاد الخال الذين يجاورونا فى المنزل على ( مصطبتهم ) التى ترى إمتداد الشارع من أوله الى آخره ..إمتلأت المعدة .. نعود أدراجنا الى اللعب .. حسب ماتوفر لنا من أدواته .. والتى غالباً ما نبتكرها بأنفسنا .. كرة شراب نتقن صنعها تماماً نحشوها بالقطن أو القش أو نتف الاسفنج فى أحسن الأحوال .. العاب الطين نشكلها الى جرار بمقطورة ، أو سيارة قلاب .. اقفاص الجريد نحولها الى سيارة شاحنة بأربع عجلات غالباً من ( بكر الخياطة أو أغطية زجاجات المياه الغازية ) .. تلك ألعاب الطفولة الأولى التى لم تتخطى حدود القرية .. أما المراحل التالية فألعابنا كان لها صور أخرى متعددة .. من صيد السمك فى الترع والمصارف ، تسلق الأشجار لجمع التوت والجميز .. أو لمطاردة العصافير واليمام فى أعشاشها ..... ومن الجائز التعرض لها فى إضافة أخرى .. حسب الأحوال ..
نعود الى الطفل الشقى الذى لم يمضى سوى نصف يومه .. ويبقى أمامه اليوم بطوله .. تقريباً إنتصف النهار .. الدليل على ذلك أنهم ينادون علينا من الداخل لتناول الغداء .. نتجمع حول( الصينية ) العدد لا يقل عن عشرة أفراد بدءاً بالجد والوالد.. ثم مروراً بالأخوة وابن العم وماتيسر من أفراد تعاون فى أعمال الحقل أو رعاية الماشية .. تلك مائدة الرجال .. ويليها بعد قليل مائدة النساء .. حيث لا يجوز أن يجتمع الجميع الى ( صينية ) واحدة .. الطعام فى تلك الأوقات لا يتعدى الأرز والخضار المطبوخ والذى غالباً مايكون من خيرات الأرض .. أى أن مشتريات الطعام لا تكون إلا فى أضيق الحدود .. أما ( اللحم أو الظَفَرْ ) لا يكون سوى يوم الجمعة فى الغالب .. بعد الغداء لابد للجميع من قيلولة الظهر .. أما نحن فقيلولتنا فى الشارع .. لا وقت نضيعه فى النوم أو الراحة .. ولا يوجد ما يستقطب الأطفال الى داخل المنزل من تليفزيون أو ماشابه ذلك فى ذلك الوقت .. كذلك خروجنا الى الشارع هو راحة وسكينة لأهل المنزل .. العاب العصارى تختلف بالطبع عن الصباح .. إما نذهب لمتابعة ( ماتشات ) الكورة التى يلعبها الكبار فى ( الجرن ) الكبير .. أو نكوّن نحن فريقنا الخاص بنا ونمارس لعب الكرة ( الشراب ) حتى يحل الظلام ..
ماإن يدخل الليل حتى تتوقف الحركة تماماً فى قريتنا .. حيث لا الكهرباء ولا متعلقاتها لم تعرف طريقها بعد الى القرية .. كان الشىء الوحيد الذى يصدح فى منزلنا مساءاً هو صوت الراديو ( تليمصر ) الأحمر الذى يضبطه الوالد على محطة القرآن الكريم لنستمع ( مضطرين ) الى قرآن السابعة الا ربع فى صوت العرب ، ثم قرآن الساعة الثامنة فى إذاعة القاهرة .. وهذا أقصى آمالنا أن يمتد بنا السهر الى تلك الساعة المتأخرة من الليل .. حيث يكون نصف الأسرة قد أخذ طريقه الى الأسِرَّة من ساعة مضت .. والنصف الآخر يتخبط خطواته على ضوء لمبة الجاز الى حيث مكان نومه المعتاد .. أما طقوس الطفولة فى النوم فهى لابد ان تكون مختلفة ككل شىء مختلف فى تلك الآونة .. كان لابد أن نتوسد أنا وأخى الأصغر قدمى الوالد ، وماهى سوى لحظات إلا ونستغرق فى النوم ، ولا ندرى مكان نومنا سوى فى صباح اليوم التالى ...
وفى الصباح التالى هناك أحداث أخر ....

هناك تعليقان (2):

  1. من أجمل وأروع ماقرأت مؤخراً فى سرد السيرة الذاتية .
    بجد أسلوب ولا أروع من ذلك .. جعلنى أقلب فى باقى الاضافات فى المدونة . ليتك تكمل الكتابة فى نفس الموضوع ، وأشهد لك بالإجادة والابداع فى هذا المنحى .
    لك تحياتى ، وأنا متابع لحديثكم ( سيرة وانفتحت ) حتى النهاية .
    بالمناسبة أنا لست ( مجهول ) ولكن تلك هى الطريقة الوحيدة الت استطعت بها إضافة تعليقاتى .. فى إختيارات ( التعليق باسم ) !! وأعذرنى إذا كنت غير ملم بتفاصيل المدونات والتعامل معها ..
    لكم تحياتى مرة أخرى .

    ردحذف
  2. مشكور مرة ثانية ( أو الثالثة ) عزيزى ال( غير معروف ) على تواجدك هنا .. ومشكور أيضا على اطارئكم الطيب على ماتناولته من موضوعات ..
    وإن شاء الله دائماً على الخير نلتقى ..
    بخصوص التعامل مع خانة ( التعليق بإسم ) المدرجة اسفل التعليق .. يجب أن تسجل فى حساب جوجل كما هو واضح .. بمعنى أن تضع عنوان ايميلك واباسورد الخاصة بك فى الخانات المطلوبة لذلك ، وبذلك يكون لك حساب مفعل فى جوجل ..
    لك تحياتى ..

    ردحذف