الخميس، 12 مارس 2009

القاهرة رايح جاى ..

اليوم .. الخميس الأخير من شهر فبراير .. موعد جلسة الطعن على التقدير الضريبى .. فى المقر العام للضرائب بالقاهرة . وذلك بناءاً على إخطار من لدنهم بحضوري الى العنوان المذكور فى موعد غايته العاشرة صباحاً مصحوباً بالمستندات !!
آخر مرة وطأت قدمى أرض قاهرة المعز منذ عامين تقريباً فى رحلة مدرسية اصطحبت فيها أسرتى الصغيرة الى حيث الماجيك لاند الشهيرة . .. فى كل مرة من مرات زيارتى المكوكية والمحدودة الى تلك المدينة الصاخبة أعود ولدىّ خليطٌ من الانطباعات المتضاربة .. هى مزيج من الحسد والأسى لحال قاطنى رقعة الزحام هذه .. الحسد لما توفر لديهم من إمكانات ترفيهية ومظاهر حضارية ليس لنا أى نصيب منها فى مدننا الإقليمية النائية .. أما الأسى فهو من حال الضجيج والزحام الخانق الذى يدور فى فلكه هؤلاء المساكين ..
بدأ يومى مبكراً على غير العادة .. مع آذان الفجر .. خطوات معدودة فى شوارع مدينتى الصغيرة التى مازالت تغط فى نوم عميق .. سيارة وحيدة ماركة البيجو العتيق تستجدى الركاب الذين يتجهون صوب المكان فى استفسار من السائق على استحياء .. ( عبود .. عبود .. ) .. من الواضح أنني الراكب الوحيد حتى الآن .. إخترت مقعدى خلف السائق لأسبابى الخاصة التى قد يكون من بينها خوفى من رعونة سائقى تلك المركبات بالتحديد .. ولى معهم تجارب مؤسفة فى رحلات يعود زمانها الى ايام الشباب وفترة التجنيد فى سيناء على وجه الخصوص .. لحظات وتوافد الركاب واحد تلو الآخر .. وإن إستغرق الوقت نحو الساعة حتى اكتمل العدد .. وباستفسار عابر من سائق المركبة " عم ابراهيم " كما تعارفنا فيما بعد خلال رحلة الذهاب والعودة .. أوضح لنا لغز ركود الحركة هذا اليوم .. حيث أنه نهاية الأسبوع مما يعنى انه يوم عودة المسافرين وليس العكس ..
استههلنا رحلتنا بتلاوة فاتحة الكتاب الكريم .. كما أوعز الينا قائد المركبة .. ثم التوكل على الله ..
فتش سائقنا فى أشرطته المبعثرة بجانبه على شريط الشيخ " محمد الامام " بالتحديد .. وعجبت من إصراره على الامام بالتحديد .. فكان رده أنه يتفائل به !! إنطلق صوت شيخنا الجليل " يجلجل " بتلاوة الذكر الحكيم .. وماهى إلا لحظات إلا وتمطى كل راكب فى جلسته متخذاً وضعاً يوحى بإستكمال نومه الذى لم يكتمل .. آخر شىء يمكن ان يراودنى أثناء سفرياتى القليلة تلك هو النوم .. فانتقلت بناظرى وسرحت بخاطرى الى حيث الحقول المترامية الأطراف على جانبى الطريق .. ودارت فى رأسى خليط من ذكريات الماضى .. وأحداث اليوم المقبل عليه .. الى وساوس وصور سوداوية كثيراً ماتطرق عقلى أثناء تلك السفريات الفردية .. ومالبث أن قطع الصمت " عم ابراهيم " آخذا بناصية الحديث مع رفاق رحلته الطويلة .. حيث تحرى المعرفة عن كل الركاب تقريباً ووجهتهم والغرض من الرحلة .. وكان لى نصيب من تلك المشاركة حيث إتخذ حديثه منحى آخر من قبيل معرفته السابقة بالوالد والأسرة والمشاوير التى كانت برفقتهم فى زمن الماضى الجميل ..
أولى محطات الوصول كانت الزقازيق حيث هبط أول الركاب قاصداً منطقة التجنيد .. شاب فى بداية المرحلة تحدد له رحلة اليوم مسيرة عامين قادمين هل سيتم تجنيده أم سيكون من نصيبه التأجيل المصحوب غالباً بالإعفاء من الخدمة العسكرية لاحقاً .. تَرَكنا الشاب مصحوباً بدعوات الجميع أن يكون الإعفاء من حظه ونصيبه ..
من الزقازيق الى بلبيس ثم إنشاص ( الطريق الزراعى ) .. حيث محطة وصول الراكب الثانى .. شاب فى ريعانه فى طريقه الى فرقة صاعقة كخطوة ترقى فى السلم العسكرى الى رتبة اليوزباشى .. هذا ماأشار به الى قائد الرحلة خلال الحديث الطويل الذى دار بينهما .. والذى تطرقا خلاله الى مناطق شتى من الحوار .. كنت من جانبى مشاركاً فيها بالانصات هذه المرة ..
على مشارف القاهرة حيث ابو زعبل بدخانها وترابها الذى يغطى المكان .. لا يفصلها عن شبرا الخيمة سوى قليل من المصانع المتهالكة والمبانى المتناثرة على جانبى الطريق .. لحظات قليلة وإنفرط عقد رفاق الرحلة واحداً تلو الآخر .. كلٌ الى وجهة محددة .. وكما كنت انا أول الركاب .. صرت بقدرة القادر آخر الركاب .. حيث فضلت ان تكون محطة الوصول هى ( عبود ) وليس (المؤسسة ) حيث السرفيس وليس المترو هو وسيلة الانتقال التالية .. تركت " عم ابراهيم " مودعاً إياه .. كأنه عشرة عمر وليس مجرد رفيق رحلة عابرة !
سرفيس من عبود – أحمد حلمى .. ثم آخر الى التحرير .. مترجلاً بعد ذلك مباشرة الى ميدان باب اللوق .. الساعة الآن تخطت التاسعة بقليل .. إستفسرت عن الشارع المقصود ( منصور ) .. فإكتشفت اننى فى نهاية الشارع حيث بدايته من ميدان لاظوغلى .. وصلت أخيراً حيث المقر المطلوب .. والقاعة المرقومة .. فى انتظار (المستشار)!! مع مجموعة من حاملى نفس الرقم .. حيث المبنى مقسم أقسام وقاعات لا حصر لها .. ويزخر بمظاهر الأبهة والنظافة التى لم نعتد عليها فى مصالحنا الحكومية .. مرت الساعة وأكثر ولم يشرّف حضرته .. أمضيتها على مضض فى اللاشىء .. إلا من بعض الاتصالات الهاتفية قطعاً لحدة الصمت والملل الذى انتابنى .. أخيراً الحادية عشرة .. مناداة الأسماء .. كان ترتيبى السادس .. الى الداخل .. طاولة كبيرة على رأسها شاب فى منتصف العمر .. أكيد هو بعينه المستشار .. على الجانب مجموعة من أربع أفراد .. بجانبى موظفة أمامها الملفات ومجموعة من الأوراق ..
سؤال مباشر ودون مقدمات .. ماوجه إعتراضك على تقديرات الضرائب ؟
رد مختصر - مقدماً يدى بورقة واحدة أعددتها مسبقاً على الكمبيوتر .. هى كل مذكراتى - : تلك سيادتك هى ملخص لكل ماتود الاستفسار عنه بخصوص شكواى ..
تناول الورقة .. مر علي سطورها الأولى .. إتجه للموظفة يملى عليها : يحفظ الملف للإطلاع على المذكرة المقدمة من العميل ..
- وقّع .. تم التوقيع ..

- لديك أقوال أخرى ! متشكرين ..
بالضبط خمس دقائق .. انتهت المهمة بسلام .. أما القرار.. فباستفسار منى للسكرتير خارج القاعة .. كان رده .. سيتم إخطارك بصورة منه فى حدود اسبوعين أو أكثر .. افادكم الله ..
اليوم مازال بطوله .. وليس من المعقول أن تكون تلك هى كل أحداث الرحلة ..
بمجرد هبوطى الشارع تذكرت أننى مازلت بدون إفطار .. أمامى مباشرة فرن أفرنجى تفوح منه رائحة الخبز الطازج .. إحترت فى المعروض .. إستقر إختيارى على بعض من قراقيش الملبن والعجوة .. بقى أن أجد مقهى أتناول فيه مشروب ساخن مع الافطار .. للأسف الشارع بطوله لم يكن به أثر لمقهى .. تناولت القراقيش واحدة تلو الأخرى أثناء سيرى فى الشارع على طريقة الصعلكة التى كنت أمارسها فى الماضى .. مرة أخرى فى باب اللوق .. تليفون الى أحد الأصدقاء حيث مقر عمله فى طلعت حرب .. جاءنى رده ان الموقع انتقل الى ش الجمهورية وهو فى انتظارى هناك ..
المنطقة الوحيدة التى أجيد الانطلاق فيها بداخل القاهرة وبإجادة تامة .. هى مثلث التحرير- العتبة - رمسيس .. وكم شهدت جولاتى المكثفة فى تلك المنطقة بالتحديد فى وقت كان لى محل عمل وإقامة فى القاهرة .. حيث كان التسكع فى طرقات تلك البقعة وملحقاتها من الموسكى والحسين .. الى ش. قصر النيل والجزيرة .. وحتى الوكالة والكورنيش .. من الأمور المحببة لنفسى .. لم ولن أنسى تلك اللحظات الجميلة التى عشتها فى تلك الفترة التى لم يطول بها الزمن ، ولم يسعفنى الوقت آنفاً أن أعيدها مرة أخرى .. ومابقى منها سوى تلك الذكريات كلما مر بى الوقت وسنحت الفرصة لإقتناص لحظة من تلك اللحظات الجميلة ..

توجهت مباشرة الى حيث المقر الجديد للبنك المركزى بالعنوان المذكور .. مروراً بشارع طلعت حرب الى ميدان الأوبرا ومنه مباشرة الى نهاية ش الجمهورية .. هالنى منظر المبنى بفخامته المبالغ فيها .. وتمتمت بحديث مع نفسى حاسداً قريبى هذا على ما أغدق الله عليه من نعمه .. تليفون مرة أخرى .. حدد لى تفاصيل مكانه بالداخل .. وهنا أيضاً زاد حسدى .. وأول كلام بيننا بعد السلام والتحيات .. "مش عاوزين عمال عندكم هنا مؤهلات عليا !!" هذا على سبيل المزاح .. استقبال طيب .. وشاى وسندوتشات .. ونصف ساعة دردشة .. الوقت تقريباً نصف النهار .. تركته مودعاً حيث أستكمل جولتي ..
العتبة .. ومالها من ذكريات كثيرة لدى .. لابد من جولة فى المكان لبعض الوقت .. أخرج مافى جيبى من نقود أحسب قيمة مايمكن شراؤه ومايكفى لأجرة العودة .. عادة متأصلة لدى .. طالما فى أى سفر لابد أن ارجع خاوى الجيوب .. جولة سريعة على فاترينات المحلات .. قرار سريع بالشراء .. هذا قميص جينز طالما رغبت فى إقتناؤه .. وهذا البنطلون قياس الابن الأكبر ، أما هذا فيناسب الثانى .. لا مانع من إثنين جينز طالما سعره معقول .. وبالمرة هذا الحذاء الرياضى مطلوب .. وجاء فى وقته .. بقيت أم الأولاد لابد من إرضائها بشىء .. حسب ماتبقى من نقود .. نظرة أخرى على فاترينة المحل .. هاتنى هذا التريكو إنه قيم وسعره معقول جداً .. صفقة طيبة .. وترضى الجميع .. أنظر الى ساعتى .. تخطت الثالثة بقليل .. أدركت مدى ضياع الوقت فجأة .. هرولت مسرعاً من العتبة الى رمسيس .. مازلت أمارس نفس خط السير القديم ( ش كلوت بك ) .. سرفيس الى عبود مرة أخرى ..
وهنا المفاجأة الغير متوقعة .. ركاب بالآلاف .. ولا توجد سيارات بالمرة .. ساعة تلو الأخرى .. ولا أمل فى اللحاق بمقعد فى سيارة متجهة نحو الزقازيق أو ماشابهها .. قرار أخير .. حلاً للموقف .. العودة الى مدينة نصر حيث محل إقامة الصديق سالف الذكر ..
فى طريقى الى خارج موقف السيارات .. المح سيارة " عم ابراهيم " فى طريقها الى الداخل ، ولكن للأسف محملة بالركاب !! ولكونى منقطع عن تلك الأسفار منذ زمن بعيد .. فقد اكتشفت ان الركاب تستقل السيارة قبل دخولها الى المقر المعهود .. ماإن رآنى الرجل .. إلا وأفرغ السيارة من ركابها بالكامل بمجموعة من الحجج والمبررات الذكية .. ثم أعاد ترتيبها مرة أخرى لأكون أنا من بين ركابه !!!
تنفست الصعداء بمجرد أن إتخذت لى مقعداً فى السيارة .. وبدأت رحلة العودة قرب الساعة الخامسة .. جاءنى إحساس بمدى طول اليوم وأحداثه .. ومر الوقت بين حديث مع قائد مركبتنا الهمام ، وبين إغفاءة وأخرى على أثر مشقة اليوم .. الذى أمضيت معظم نهاره سيراً على الأقدام ..
ولأعود سالماً الى أحبائى الصغار بعد عناء يوم سفر طويل.. الى القاهرة رايح جاى ...

هناك تعليق واحد: