الجمعة، 20 فبراير 2009

أنا عاوز أباجورة ..

( 3 )


منذ عدة ليال احتدم نقاش بيني وبين أبنائى ، وبخاصة الأكبر منهم ، وهو الذى وَلَجَ منذ قليل المرحلة الإعدادية - أما الثانى فهو الصورة المستنسخة و ( المستأنسة ) منه فى كل تصرفاته .. كان سبب النقاش هو ما ألمسه منه من ميل الى الفوضى وعدم النظام فى كل أموره ، وبالزيادة فى تلك المرحلة بالتحديد .. بداية بإستذكار الدروس ، مروراً بالفوضى التى يتركها فى المكان بأوراقه ، وملابسه ، وأحذيته المترامية فى كل ركن فى المنزل .. وبعد التنبيه باللين مرة ، وبالشدة مرات .. غالباً ما يعود الحال الى ما كان عليه فى غضون ساعات أو أيام على أكثر تقدير .
فى تلك المرة أخذنا الحديث الى منحى آخر .. حيث كان موضع فض دروسهم كالمعتاد فى غرفة المعيشة التى تئن بمحتوياتها .. الأول استحوذ على ترابيزة الشاى ، والآخر أخذ وضع الانبطاح أرضاً وتناثرت أمامه كل محتويات حقيبته .. فى البداية حاولت أن الفت نظرهم الى انه يوجد لدينا مكتبين بالداخل فى غرفة مخصصة للمذاكرة تعانى الوحدة والفراغ .. فما كان منهم إلا الجواب الشافى الكافى .. إن الجو هناك بارد ، أما هنا الجو دافىء !!! إجابة أقنعت أمهم على الأقل .. وبخاصة فى ليل الشتاء البارد هذا ..
أخذنى الحديث معهم بعد وصلة النصح والإرشاد المعتادة فى مقارنة بحالهم الآن وحالى أنا فى مثل سنوات عمرهم .. وماأطيبها من أحاديث بالنسبة لهم فى تلك المساحة الزمنية بالذات ...
بمجرد أن صرحت لهم بأن مذاكرتى للدروس كانت على " الطبلية " مستعيناً بضوء " لمبة الجاز نمرة 5 " .. أما التدفئة فكانت " ركية " النار التى نعدها خصيصاً لمثل تلك الأمسيات الباردة .. سنحت لهم الفرصة التى يتمنونها دائماً لتنحية الكتب جانباً .. وهاتك يا أسئلة .. أيه هى " الطبلية " !! ، طيب ليه نمرة 5 !! ، و لماذا لم تستخدموا لمبات الكهرباء والدفاية !! كنتم عايشين بدون كهرباء !! كيف هى الحياة بدون الكهرباء ، وملحقاتها من دفاية ، سخان ، تليفزيون ، وحتى الكمبيوتر !!
لابد من ردود واجابات شافية لكل تلك الاستفسارات .. البعض منها ردود مقنعة لأسئلتهم اللاهثة والمتلاحقة ، والبعض الآخر يتحرون فيه الدقة حتى تصل الى مخيلتهم الصورة بشكل أوضح .. يجرني الحديث معهم أحيانا الى بعض التفاصيل ، وكأنها فرصة مواتية لنبش الماضى والتقليب فى دفتر الذكريات ، فيأخذنى الحديث مثلاً الى أن لمبات الجاز هذه أنواع وماركات مثل ( نمرة 10 ، نمرة 5 ، السهارى ، العفاطى ، ... ) ، وكل واحدة منها تختلف شكلاً وموضوعاً عن الأخرى وكلٍ لها موضع ومكانة فى المنزل ، أما "الطبلية " فهى ترابيزة مستديرة ذات أربع أرجل قصيرة .. نجلس أرضاً حولها ولمبة الجاز تتوسطنا .. وتستخدم نهاراً فى أعمال الخبيز ومائدة للطعام ، أما ليلاً فهى ترابيزة المذاكرة التى تجمعنا نحن الأخوة الثلاث لفض دروسنا وواجباتنا المدرسية التى لم تكن تثقل كاهلنا كما هو واقع اليوم لأبنائنا ضحية منظومة التعليم الفاشلة التى ليس لها مثيل فى العالم المتقدم منه والمتخلف .
يجرنى حديث الأبناء الى جوانب شتى فى تلك المرحلة المنقضية ، والتى غابت عنهم معالمها بدرجة تستحق بعض الايضاح والتقريب . فهم لا يتخيلون مثلاً كيف أن مصروفى اليومى - هذا لو كان هناك مصروف فى الأصل - لا يتعدى القرش صاغ ، وهذا المذكور يمكن أن نشترى بنصفه ساندويتش المدرسة ، ونحلّى بالنصف الآخر .. ويسرح خيالهم أكثر عندما أصف لهم رحلة المدرسة اليومية سيراً على الأقدام من قريتى الصغيرة الى القرية المجاورة فى مسافة لا تقل عن خمسة كيلومترات ذهاباً ، ومثلها للعودة .. وفوق كل هذا وذاك لابد أن أذكر لهم - وبكل افتخار - أننى كنت دائماً الأول على مدرستى سواء فى الابتدائى أو الاعدادى .. وبرضه على لمبة الجاز والطبلية .. وأضغط كثيراً على تلك العبارة .. حتى تكون لهم خير حافز فى مسيرتهم .. حيث لم نتشرف بصحبة الكهرباء وأخواتها إلا عند رحيلنا من القرية - انا وأختى الكبرى - انتقالاً الى المرحلة الثانوية فى المدينة البعيدة عنا والانفصال عن الأهل فى مثل تلك السن المبكرة الى حياة فيها كل الاختلاف عن المرحلة السابقة عليها ومحل النقاش الآن .
طيب والتليفزيون !! التوأم الروحى لأبناء الجيل .. هل تستقيم حياة بدون تليفزيون .. وأفلام كارتون ومسلسلات وأكشن وخلافه !! تأتى اسئلتهم مستفسرة فى استغراب .. هنا لابد أن اوضح لهم الصورة ايضاً أن هذا الدخيل على مجتمعاتنا لم يقرب منزلنا قبل الصف الاعدادى الأخير .. حيث تشرفنا بقدوم هذا الـ " شارب " الأحمر 12 بوصة .. ابيض وأسود .. محمولاً على الأكتاف من الإسكندرية الى قريتنا النائية وعلى يد أخى الأكبر الذى تسلم عمله مؤخراً مهندساً فى مجمع الومنيوم نجع حمادى .. ومن أول راتب له فى عمله الجديد .. وهذا كان حكاية فى حد ذاته .. أول تليفزيون فى القرية وفى الجوار ، نقلة حضارية لم تكن فى الحسبان .. كان هذا الاختراع العجيب بالنسبة لى على وجه الخصوص أول نافذة فُتحت أمامى على العالم .. لا أنسى ابداً تعلقى الغير طبيعى بهذا الجهاز .. لدرجة أننى فى تلك المرحلة كنت أحفظ حتى الاعلانات عن ظهر قلب ، ومتابع منتظم للبرامج التى كانت محصورة على قناتين فقط كانت معروفة بالقناة الخامسة ( الأولى ) ، والتاسعة (الثانية ) - ولم أدرى سبب نعتهم بهذين الرقمين لا وقتها ولا حتى الآن – وهل يعقل أن انسى نادى السينما ، و أوسكار ، نافذة على العالم ، والمسلسل الأجنبى عقب نشرة التاسعة .. أوحتى اليوم المفتوح ( يوم الأحد من كل اسبوع ) .. حيث نشحن البطارية اليوم السابق ونجهز المكان فى فراندة المنزل استعداداً للطوفان الذى سيحل علينا فى الغد للإستمتاع بفقرات اليوم المفتوح من أغانى ومسرحيات وأفلام تتوالى على مدار اليوم ...
عفواً ... أخذني الحديث الى الثرثرة المحببة فى الماضى العذب الجميل .. ونسيت الأولاد ومشكلتهم التى لم أصل لحل لها حتى الآن ..
حلاً لمشكلة البرد المثارة .. كان اقتراح من جانبى بأن يأخذوا الدفاية الى حجرة المذاكرة ويعتادوا فض دروسهم هناك ..وهنا خرج الابن الأكبر بآخر حججه هرباً من الموقف .. " أنا عاوز اباجورة " اضاءة الغرفة غير كافية .. وعلى شاكلته .. الأصغر يردد " و أنا كمان عاوز اباجورة " ...
أوافق صاغراً على طلباتهم .. طبعاً لازم تيجى الأباجورة ، ( بل اثنتين ) .. حلا لهذه المعضلة الأسرية .. وفى أسرع فرصة .. قبل أن يخرجا علينا بأفكار أخرى مستحدثة تجرنا الى مالا تحمد عقباه .
وليبقى الوضع على ماهو عليه الى أن تأتى الأباجورة ( بل اثنتين ) ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق